في عودة الروح إلى الجسد
وهو التجاسد
مقتطف من كتاب
الروح
في الكلام على على أرواح الأموات والأحياء
بالدلائل من الكتاب والسنة
والآثار وأقوال العلماء
لمؤلفه
محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله
المعروف بابن قيم الجوزية
المسألة السادسة وهي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا
وقد احتج أبو عبد الله بن منده على إعادة الروح إلى البدن بأن قال : وحدثنا محمد بن الحسين ابن الحسن، حدثنا محمد بن زيد النيسابوري، حدثنا حماد بن قيراط، حدثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال : بينما رسول الله ذات يوم قاعد تلا هذه الآية : «ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسط أيديهم» (سورة الأنعام، الآية : 93)، قال : «والذي نفس محمد بيده ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة والنار» ثم قال : «فإذا كان عند ذلك صف له سماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقين كأن وجوههم الشمس، فينظر إليهم ما ترى غيرهم وإن كنتم ترون أنهم ينظرون إليكم، مع كل منهم أكفان وحنوط، فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة، وقالوا : أخرجى أيتها النفس الطيبة إلى رضوان الله وجنته، فقد أعد الله لك من الكرامة ما هو خير من الدنيا وما فيها، فلا يزالون يبشرونه ويحفون به، فهم ألطف وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل، ويموت الأول فالأول، ويهون عليه، وكنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه، قال : فلهى أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم، فيبتدرها كل ملك منهم أيهم يقبضها، فيتولى قبضها ملك الموت؛ ثم تلا رسول الله : «قل يتوفاكم ملك الموت الذى وُكل بكم ثم إلى ربكم تُرجعون» (سورة السجدة، الآية 11) فيتلقاها بأكفان بيض، ثم يحتضنها إليه، فهو أشد لزوما لها من المرأة إذا ولدتها، ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك، فيستنشقون ريحها ويتباشرون بها. ويقولون : مرحبا بالروح الطيبة والروح الطيب، اللهم صل عليه روحا وعلى جسد خرجت منه. قال : فيصعدون بها، ولله عز و جل خلق في الهواء لا يعلم عددتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريح أطيب من المسك، فيصلون عليها ويتباشرون، ويفتح لهم أبواب السماء، فيصلى عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم حتى ينتهى بها بين يدى الملك الجبار، فيقول الجبار جل جلاله : مرحبا بالنفس الطيبة ويجسد خرجت منه، وإذا قال الرب عز وجل للشيء مرحبا رحب له كل شيء ويذهب عنه كل ضيق، ثم يقول لهذه النفس الطيبة : أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة، وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإنى قضيت أنى منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى؛ فوالذي نفس محمد بيده لهى أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد، وتقول : أين تذهبون بى إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه؟ قال : فيقولون : إنا مأمورون بهذا، فلا بد لك منه؛ فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه» (ذكره السيوطي في «الدر المنثور» [3\30]).
فدل هذا الحديث أن الروح تعاد بين الجسد والأكفان، وهذا عود غير التعلق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوع آخر وغير تعلقها به حال النوم، وغير تعلقها به وهى في مقرها، بل هو عود خاص للمساءلة.
قال شيخ الإسلام : الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس، وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون، فقالوا : السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص؛ وهذا يتضح بجواب المسألة، وهي قول السائل : هل عذاب القبر على النفس والبدن؟ أو على النفس دون البدن؟ أو على البدن دون النفس؟ وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟
وقد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة، ونحن نذكر لفظ جوابه، فقال : «بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما تكون على الروح منفردة عن البدن. وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام، وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث، قول من يقول : إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح، وان البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان، لكن يقولون : لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور، لكن هؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون : إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا؛ وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر ويقر بالقيامة ويثبت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال : أحدها : أنه على الروح فقط، الثاني : أنه عليها وعلى البدن بواسطتها، الثالث : أنه على البدن فقط، وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقا، وقول من ينكر عذاب الروح مطلقا؛ فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة، فالقول الثاني الشاذ قول من يقول إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبى بكر وغيره، وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وهذا قول باطل وقد خالف أصحابه أبو المعالي الجويني وغيره، بل قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وأنها منعمة أو معذبة، والفلاسفة والإلهيون يقرون بذلك لكن ينكرون معاد الأبدان، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام وإن كان قد يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام.
والقول الثالث الشاذ قول من يقول : إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقول الساعة الكبرى، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ، لكنهم خير من الفلاسفة، فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى.
والقول الثالث الشاذ قول من يقول : إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقول الساعة الكبرى، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ، لكنهم خير من الفلاسفة، فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى.
فصل
فإذا عرفت هذه الأقوال الباطلة، فلتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين؛ ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.
فصل
من
المسألة السابعة وهى قول للسائل ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وكون الميت لا يجلس ولا يقعد فيه :
... الأمر العاشر : أن الموت معاد وبعث أول، فإن الله سبحانه وتعالى جعل
لابن آدم معادين وبعثين يجزى فيهما الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. فالبعث الأول : مفارقة الروح للبدن ومصيرها إلى دار الجزاء الأول.
والبعث الثانى : يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها ويبعثها من قبورها إلى الجنة أو النار، وهو الحشر الثانى؛ ولهذا في الحديث الصحيح «وتؤمن بالبعث الآخر» (أخرجه البخاري في [2] كتاب الإيمان : [37] باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام [الحديث : 50]، وأخرجه مسلم في [1] كتاب الإيمان : [1] باب الإيمان ما هو؟ [الحديث : 97])، فإن البعث الأول لا ينكره أحد، وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هاتين القيامتين، وهما الصغرى والكبرى، في سورة المؤمنين، وسورة الواقعة، وسورة القيامة، وسورة المطففين، وسورة الفجر، وغيرها من السور؛ وقد اقتضى عدله وحكمته أن جعلها دارى جزاء المحسن والمسىء، ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثانى في دار القرار كما قال تعالى : «كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة» (سورة آل عمران، الآية : 185).
وقد اقتضى عدله وأوجبت سماؤه الحسنى وكماله المقدس تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، فلا بد أن يذيق بدن المطيع له وروحه من النعيم واللذة ما يليق به، ويذيق بدن الفاجر العاصى له وروحه من الألم والعقوبة ما يستحقه، هذا موجب عدله وحكمته وكماله المقدس؛ ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان لا دار جزاء، لم يظهر فيها ذلك، وأما البرزخ فأول دار الجزاء فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضى الحكمة إظهاره.
لابن آدم معادين وبعثين يجزى فيهما الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. فالبعث الأول : مفارقة الروح للبدن ومصيرها إلى دار الجزاء الأول.
والبعث الثانى : يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها ويبعثها من قبورها إلى الجنة أو النار، وهو الحشر الثانى؛ ولهذا في الحديث الصحيح «وتؤمن بالبعث الآخر» (أخرجه البخاري في [2] كتاب الإيمان : [37] باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام [الحديث : 50]، وأخرجه مسلم في [1] كتاب الإيمان : [1] باب الإيمان ما هو؟ [الحديث : 97])، فإن البعث الأول لا ينكره أحد، وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هاتين القيامتين، وهما الصغرى والكبرى، في سورة المؤمنين، وسورة الواقعة، وسورة القيامة، وسورة المطففين، وسورة الفجر، وغيرها من السور؛ وقد اقتضى عدله وحكمته أن جعلها دارى جزاء المحسن والمسىء، ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثانى في دار القرار كما قال تعالى : «كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة» (سورة آل عمران، الآية : 185).
وقد اقتضى عدله وأوجبت سماؤه الحسنى وكماله المقدس تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، فلا بد أن يذيق بدن المطيع له وروحه من النعيم واللذة ما يليق به، ويذيق بدن الفاجر العاصى له وروحه من الألم والعقوبة ما يستحقه، هذا موجب عدله وحكمته وكماله المقدس؛ ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان لا دار جزاء، لم يظهر فيها ذلك، وأما البرزخ فأول دار الجزاء فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضى الحكمة إظهاره.
فإذا كان يوم القيامة الكبرى وفي أهل الطاعة وأهل المعصية ما يستحقونه من نعيم الأبدان والأرواح وعذابهما، فعذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة ونعيمها، وهو مشتق منه، وواصل إلى أهل البرزخ هناك، كما دل عليه القرآن والسنة الصحيحة الصريحة في غير موضع دلالة صريحة، كقوله : «فيفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها«، وفي الفاجر : «فيفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها» (أخرجه أبو داود في [35] كتاب : السنة، [24] باب : المسألة في القبر وعذاب القبر [الحديث : 4753]، وأخرجه النسائي في [21] كتاب الجنائز، [114] باب : عذاب القبر [الحديث : 2058]، وأخرجه ابن ماجه في [37] كتاب الزهد، [32] باب : ذكر الموت والبلى [الحديث : 4269])، ومعلوم قطعا ان البدن يأخذ حظه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظها، فإذا كان يوم القيامة دخل من ذلك الباب إلى مقعده الذى هو داخله. وهذان البابان يصل منهما إلى العبد فى هذه الدار أثر خفي محجوب بالشواغل والغواشي الحسية والعوارض، ولكن يحس به كثير من الناس وإن لم يعرف سببه ولا يسحن التعبير عنه، فوجود الشيء غير الاحساس به والتعبير عنه، فإذا مات كان وصول ذلك الأثر إليه من ذينك البابين أكمل، فإذا بعث كمل وصل ذلك الأثر إليه. فحكمة الرب تعالى منتظمة لذلك أكمل انتظام في الدور الثلاث.