في بقاء الروح حية بعد الموت
مقتطف من كتاب
الروح
في الكلام على على أرواح الأموات والأحياء
بالدلائل من الكتاب والسنة
والآثار وأقوال العلماء
لمؤلفه
محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله
المعروف بابن قيم الجوزية
المسألة الرابعة وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده
اختلف الناس في هذا فقالت طائفة تموت الروح وتذوق الموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت.
قالوا : وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده، قال تعالى : «كل من عليها فان (٢٦) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» (سورة الرحمان، الآيتان : ٢٦و٢٧)، وقال تعالى : «كل شيء هالك إلا وجهه» (سورة القصص، الآية : ٨٨)، قالوا : وإذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت. قالوا : وقد قال تعالى عن أهل النار أنهم قالوا : «ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين» (سورة غافر : الآية ١١) فالموتة الأولى هذه المشهودة، وهي للبدن، والأخرى للروح
(ذكره الطبري في تفسيره، الآيتان : ١٦٩ و١٧٠).
(ذكره الطبري في تفسيره، الآيتان : ١٦٩ و١٧٠).
وقال آخرون : لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان. قالوا : وقد دلت على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب، وقد قال تعالى : «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (١٦٩) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم» (سورة آل عمران، الآيتان : ١٦٩ و١٧٠). هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت.
والصواب أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا، فهى لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب كما سيأتى ان شاء الله تعالى بعد هذا، وكما صرح به النص انها كذلك حتى يردها الله في جسدها. وقد نظم أحمد بن الحسين الكندى هذا الاختلاف في قوله :
تنازع الناس حتى لااتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة.......... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة.......... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
فإن قيل : فعند النفخ في الصور هل تبقى الأرواح حية كما هي أو تموت ثم تحيا؟ قيل : قد قال تعالى : «ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله» (سورة الزمر، الآية : ٦٨) فقد استثنى الله سبحانه بعض من في السموات ومن في الأرض من هذا الصعق (ذكره الطبري في تفسيره : [12\29]). فقيل : هم الشهداء؛ هذا قول أبى هريرة وابن عباس وسعيد بن جبير. وقيل : هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت؛ وهذا قول مقاتل وغيره. وقيل : هم الذين في الجنة من الحور العين وغيرهم ومن في النار من أهل العذاب وخزنتها، قاله أبو إسحق بن شاقلا من أصحابنا.
وقد نص الإمام أحمد على أن الحور العين والولدان لا يمتن عند النفخ في الصور، وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة «لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى» (سورة الدخان، الآية : 56)، وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان.
وقد نص الإمام أحمد على أن الحور العين والولدان لا يمتن عند النفخ في الصور، وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة «لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى» (سورة الدخان، الآية : 56)، وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان.
وأما قول أهل النار : «ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين» (سورة غافر، الآية : 11) فتفسير هذه الآية التي في البقرة، وهي قوله تعالى : «كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم» (سورة البقرة، الآية : 28) فكانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور. وليس في ذلك إماتة أرواجهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات؛ وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، ففي الحديث الصحيح «أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدرى افاق قبلى أم جوزى بصعقة يوم الطور» (أخرجه البخاري في [44] كتاب الخصومات [1] ياب ما يذكر في الأشخاص، والخصومة بين المسلم واليهود [الحديث : 2411،2412]، وأخرجه أيضا في [60] كتاب الأنبياء [31] ياب : وفاة موسى، وذكره بعد الحديث : 3408، وأخرجه أيضا في [81] كتاب الرقائق [43] باب نفخ الصور [الحديث : 6517،6518]؛ وأخرجه مسلم في [43] كتاب الفضائل [42] باب : من فضائل موسى [الحديث : 159، 165]...).
فهذا صعق في موقف القيامة إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ تصعق الخلائق كلهم؛ قال تعالى : «فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون» (سورة الطور، الآية : ٤٥)، ولو كان هذا الصعق موتا لكانت موتة أخرى.
فهذا صعق في موقف القيامة إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ تصعق الخلائق كلهم؛ قال تعالى : «فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون» (سورة الطور، الآية : ٤٥)، ولو كان هذا الصعق موتا لكانت موتة أخرى.
وقد تنبه لهذا جماعة من الفضلاء، فقال أبو عبد الله القرطبى : ظاهر هذا الحديث أن هذه صعقةُ غشي تكون يوم القيامة لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور. قال : وقد قال شيخنا أحمد بن عمرو : وظاهر حديث النبي يدل على أن هذه الصعقة إنما هي بعد النفخة الثانية نفخة البعث، ونص القرآن يقتضى أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هذا قال بعض العلماء : يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل. وقال القاضي عياض : يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشور حين تنشق السموات والأرض. قال : فتستقل الأحاديث والآثار، ورد عليه أبو العباس القرطبى، فقال : يرد هذا قوله في الحديث الصحيح : أنه حين يخرج من قبره يلقى موسى آخذا بقائمة العرش. قال : وهذا إنما عند نفخة الفزع...