Pas à pas... خطوة بخطوة

بحوث في النَفَسِيّة

إنسياق متموضع

Recherches Spirites


Dérive situationniste


« Naître, mourir, renaître encore et progresser sans cesse, telle est la loi »

« ولادة ثم ممات ثم ولادة مجددا مرة بعد أخرى، فتطور دون هوادة؛ تلك هي سنة الحياة !»

De l'âme à l'Esprit من الروح إلى النفس

خلافا لما يذهب إليه البعض، من باب التعريب الحرفي، من ترجمة Spiritisme إلى الأرواحية، فإني أعتقد أن أفضل ترجمة لهذه الكلمة هي ما ارتأيت وكما أبينه في هذه المدونة؛ فالترجمة الأفضل لكلمة Esprit هي النفس، بينما تبقى الروح مرادفة لكلمة Âme؛ وبذلك يكون التعريب الآصح لكلمة Spiritisme هو : النفسية، بتحريك النون والفاء.

النفسية والتصوف
1
Soufisme et spiritisme

 التصوف كمدخل للنَفَسية
Le soufisme, un spiritisme islamique 
Le soufisme est une voie royale pour la spiritualité islamique avec sa richesse et les disputes philosophiques auxquelles elle a donné lieu au sein et autour de l'islam. Par disputes, nous référons surtout à celles ayant valeur scientifique et non aux attitudes et positions idéologiques qui n'ont pas manqué et qui n'ont d'intérêt que dans le cadre d'un discours purement théologique; ce qui n'est pas notre propos. 
Aujourd'hui encore, bien plus peut-être qu'hier, cette forme particulièrement vivante, dans sa richesse et sa diversité, de la spiritualité musulmane, dans sa dimension théologale, donne de l'islam l'image la plus sympathique et la plus reluisante auprès du public des non-musulmans, permettant de contrecarrer efficacement les impressions négatives bien plus fréquentes auprès d'un tel public et qui altèrent l'humanisme foncier de cette religion qui est aussi et avant tout un art de vivre.    
Nous recourons à Ibn Khaldoun pour introduire à cette voie qui nous semble fonder bien plus qu'on le croit le vécu musulman de tous les jours et, surtout, établir un pont entre le spiritisme moderne, en tant que doctrine spiritualiste prétendant à la scientificité, et l'islam dans sa dimension spirituelle et non moins scientifique et rationnelle du fait de sa prétention d'incarner concrètement le statut d'ultime testament divin qui soit dans le même temps rationnel.
Le grand historien arabe, fidèle à sa méthode, présente objectivement le soufisme et sa science, en parlant en connaisseur et distinguant soigneusement entre ses aspects éminemment sérieux, dignes d'intérêt et de respect et les aspects plus folkloriques qui, soit-di en passant, ne manquent pas de fausser l'image de tout savoir, toute science, et qui sont le fait de gens peu sérieux quand il ne s'agit pas, tout simplement, de charlatans présents en tout savoir.
Ibn Khaldoun ne manque pas ainsi de rappeler que nombre de grands savants arabes et musulmans ne dédaignèrent pas d'apprendre et divulguer ce savoir ni d'en être adepte, comme ce fut le cas du plus célèbre d'entre eux : AlGhazali auquel nous consacrerons un prochain article, ainsi qu'à Ibn Sinna (Avicenne), entre autres.
Dans la présentation que nous donnons ci-après, extraite des Prolégomènes, Ibn Khaldoun reconnaît volontiers ce que le soufi peut avoir comme vérités grâce à sa pratique contemplative; cette gnose étant obtenue grâce à l'élévation de son âme ou esprit au-dessus des limites des sens, reconnaissant ainsi la réalité des pouvoirs illimités de l'esprit humain dégagé de la matière tel que l'enseigne le spiritisme moderne.
Il n'est d'ailleurs pas inintéressant de relever le constat fait par le grand historien que le soufisme a fini par constituer une science théorique du subconscient et de l'intuition humains.
Notons que les photos illustrant cet article ainsi que les précédents relatifs à Ibn Khaldoun, et sauf indication contraire, représentent le grand savant arabe et/ou son oeuvre majeure.

الفصل السابع عشر 
من الباب السادس من الكتاب الأول 
من
 مقدمة تاريخ ابن خلدون
في علم التصوف

هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين و من بعدَهم طريقة الحق والهداية، وأصلُها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يُقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة؛ وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة. وقال القُشيري رحمه الله : «ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاقٌ من جهة العربية ولا قياس. والظاهر أنه لقب. ومن قال : اشتقاقه من الصفاء، أو من الصفة، فبعيد من جهة القياس اللغوي. قال: وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه.»
قلتُ : والأظهر أن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفه الناس في لُبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف. فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة، اختُصُوا بمآخذ مدركة لهم؛ وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان : إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم؛ وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضى والغضب والصبر والشكر، وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهي التي يتميّز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم من الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به، والنشاط عن الحمّام، والكسل عن الإعياء. وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته، لابد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة، فترسخ وتصير مقاما للمريد؛ وإما أن لا تكون عبادة، وإنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات؛ ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة. قال صلى الله عليه وسلم : «من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة». فالمريد لابد له من الترقي في هذه الأطوار، وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان. وإذا وقع، تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله. وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية. فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله، وينظر في حقائقها، لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس، لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة.
وغاية أهل العبادات، إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع، أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولا؛ فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاما، ويترقى منها إلى غيرها. ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف، اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. وصار علم الشريعة على صنفين : صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات؛ وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقّي منها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك.
الإمام الغزالي
فلما كُتبت العلوم و دُوّنت، وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطرقة في طريقهم. فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، كما فعله المحاسبي في كتاب الرعاية له؛ ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله القشيري في كتاب الرسالة، والسهرودي في كتاب عوارف المعارف، وأمثالهم. وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء، فدوّن فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بيّن آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم. وصار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تُتلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دُونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول و غير ذلك.
ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها؛ والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه و تجدد نشؤه، وأعان على ذلك الذِكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما. ويكشف حجاب الحس، ويُتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك. فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي، وتقرُب ذاتُه في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود مالا يدرك سواهم. وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السَفلية، وتصير طوع إرادتهم. فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه؛ بل يعدّون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ؛ لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها. وتبعهم في ذلك أهل الطريقة، ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم.
ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك التي وراءه، واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القُوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها. فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ، وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش. هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة.
ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة، لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخَلوة، وإن لم يكن هناك استقامة كالسحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة. ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدّبة أو مقعّرة، و حوذي بها جهة المرئي، فإنه يتشكل فيه معوجا على غير صورته. وإن كانت مسطّحة تشكل فيها المرئي صحيحا. فالاستقامة للنفس، كالانبساط للمرآة، فيما ينطبع فيها من الأحوال. ولما عُني المتأخرون بهذا النوع من الكشف، تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي، وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك. وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلّم لهم. وليس البرهان والدليل بنافع في هذا الطريق، ردا وقبولا، إذ هي من قبيل الوجدانيات.
تفصيل‭ ‬وتحقيق‭ ‬: يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل. ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه. ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات : إما بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى أنه هو عينها، وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلا. فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحد منها، حتى تتضح معانيها! فنقول، إن المباينة تقال لمعنيين :
أحدهما المباينة في الحيز والجهة، ويقابله الاتصال. وتشعر هذه المقابلة على هذه التقيُد بالمكان : إما صريحا، وهو تجسيم، أو لزوما، و هو تشبيه من قبيل القول بالجهة. وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة، فيُحتمل غير هذا المعنى. من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا : لا يقال في البارئ أنة مباين مخلوقاته، ولا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات. وما يقال من أن المحل لا يخلو عي الاتصاف بالمعنى وضده، فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا، وأما مع امتناعه فلا؛ بل يجوز الخلو عن المعنى وضده؛ كما يقال في الجماد، لا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي. وصحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها. والبارئ سبحانه منزه عن ذلك. ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين، و قال : «ولا يقال في البارئ مباين للعالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه. وهو معنى ما يقول الفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه، بناءٌ على وجود الجواهر غير المتحيزة. وأنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات. وهو مبسوط في علم الكلام.»
وأما المعنى الآخر للمباينة، فهو المغايرة والمخالفة فيقال : البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته. ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط. وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين أهل الرسالة ومن نحا منحاهم. وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية، إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته. وربما زعموا أنة مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون وسقراط؛ و هو الذي يعيّنه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان، تنتفي إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء؛ فإن تلك مغايرة صريحة، و لا يقولون بذلك. وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام، و هو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به. وهو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة. وتقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين :
صفحة من الرسالة القشيرية
الأولى : أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها، متحدة بها في المتصورين، وهي كلها مظاهر له، وهو القائم عليها، أي المقوّم لوجودها، بمعنى لولاه كانت عدما، وهو رأي أهل الحلول.
الثانية : طريق أهل الوحدة المطلقة، وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد، فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصفات. وغالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية، وهي أوهام. ولا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم والظن والشك، وإنما يريدون أنها كلها عَدَم في الحقيقة، ووجود في المدرك البشري فقط. ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم، لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرره بعد، بحسب الإمكان. والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال، كما في المدارك البشرية، غير مفيد، لأن ذلك إنما ينقل من المدارك الملكية، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم. وقصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال. وربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى يالأغمض فالأغمض.
وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم، كما فعل الفرغاني، شارح قصيدة ابن الفارض، في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح؛ فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية، التي هي مظهر الأحدية، وهما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير. ويسمّون هذا الصدور بالتجلي.
وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه، وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور، لقوله في الحديث الذي يتناقلونه : «وكنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق ليعرفوني». وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق، وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية، وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين، والكُمّل من أهل الملة المحمدية. وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية، وهي مرتبة المثال، ثم عنها العرش، ثم الكرسي، ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. هذا في عالم الرتق؛ فإذا تجلت، فهي في عالم الفتق. انتهى.
ويسمّى هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات، وهو كلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه و بُعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل. وربما أُنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب، فإنه لا يعرّف في شيء من مناحيه. وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة، وهو رأي أغرب من الأول في تعقله و تفاريعه؛ يزعمون فيه أن الوجود له قُوى في تفاصيله، بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها.
والعناصر إنما كانت بما فيها من القُوى، وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب، كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية؛ ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها في نفسها؛ وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية؛ ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة. وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل، هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه، لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة؛ فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية، وهي في الحقيقة واحدة بسيطة، والاعتبار هو المفصل لها، كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها؟ فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع، في كل موجود كما ذكرناه، وتارة بالكل مع الجزء، على طريقة المثال. وهم في هذا كله يفرّون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه، وإنما أوجبها عندهم الوهم و الخيال. والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان، من أن وجودها مشروط بالضوء؛ فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه.
وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي، بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي، فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد. فالحر والبرد والصلابة واللين، بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها؛ لما جعل في المدرك من التفصيل، الذي ليس في الموجود، وإنما هو في المدارك فقط. فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل، إنما هو إدراك واحد، وهو أنا لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النائم؛ فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر، فقد كل محسوس و هو في تلك الحال، إلا ما يفصّله له الخيال. قالوا : فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري، ولو قدّر فقد مُدركه فُقد التفصيل؛ وهذا هو معنى قولهم : الوهم، لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية.
هذا ملخص رأيهم على ما يُفهم من كلام ابن دهقان، وهو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون إليه يقينا مع غيبته عن أعيننا، وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا. والإنسان قاطع بذلك، ولا يكابر أحد نفسه في اليقين، مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون : إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة، و يسمّى ذلك عندهم مقام الجمع، ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات، ويعبّرون عن ذلك بمقام الفرق، وهو مقام العارف المحقق. ولابد للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة، لأنه يُخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته. فقد تبينتَ مراتب أهل هذه الطريقة.
ابن سينا
ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف، منه مثل الهروي في كتاب المقامات له، وغيره. وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة، مذهبا لم يُعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله. ثم يورّث مقامه لآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها، فقال : «جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد». وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية، ولا دليل شرعي؛ وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم. فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب، كما قاله الشيعة في النقباء. حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم ونحلتهم، رفعوه إلى عليّ رضي الله عنه، وهو من هذا المعنى أيضا. وإلا فعليْ رضي الله عنه لم يُختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا حال. بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة. ولم يُختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص، بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد و المجاهدة، تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم.
نعم إن الشيعة يخيّلون بما ينقلون من ذلك اختصاص علي رضي الله عنه بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهابا مع عقائد التشيع المعروفة لهم. والذي يظهر أني المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموزانة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق في الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، و أفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر وأن يكون على وزانه في الباطن وسموه قطبا لمدار المعرفة عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه. فتأمل ذلك.
يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا به كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات؛ وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم. والله يهدي إلى الحق.
تذييل‭ ‬: وقد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيات، كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات تُوهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها، وهي قوله :
ما وحّد الواحد من واحد          إذ كل من وحّده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته          تثنيه أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده               ونعت من ينعته لاحد
فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه : «استشكل الناس إطلاق لفظ الجحود على كل من وحّد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفّوه. ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتفاء عن الحدوث بثبوت عين القدم وأن الوجود كله حقيقة واحدة وآنية واحدة. وقد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم : الحق عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية. وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأن كل ما سوى عين القدم، إذا استُتبع فهو عدم. وهذا معنى : كان الله؛ ولا شيء معه؛ وهو الآن على ما هو عليه، كان عندهم. ومعنى قول كبير الذي صدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : «ألا كل شيء، ما خلا الله باطل» .قالوا : فمن وحد ونعت، فقد قال بمُوجد مُحدث، هو نفسه؛ وتوحيد محدث هو فعله، موجود قديم، هو معبود.
وقد تقدم معنى التوحيد انتفاء عين الحدوث، وعين الحدوث الآن ثابتة بل متعددة، والتوحيد مجحود، والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، وهما معا في بيت واحد : ليس في البيت غيرك! فيقول الآخر بلسان حاله : لا يصح هذا إلا لو عدمتَ أنت! 
وقد قال بعض المحققين في قولهم : «خلق الله الزمان»، هذه ألفاظ تناقض أصولها، لأن خلق الزمان متقدم على الزمان، وهو فعل لابد من وقوعه في الزمان؛ وإنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللغات عن تأدية الحق فيها وبها. فإذا تحقق أن الموحد هو الموحد، وعدم ما سواه جملة، صح التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم : «لا يعرف اللهَ إلا اللهُ». ولا حرج على من وحّد الحق مع بقاء الرسوم والآثار، وإنما هو من باب : «حسناتُ الأبرار سيئاتُ المقرّبين». لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية. ومن ترقّى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصا، مع علمه بمرتبته، وأنه تلبيس تستلزمه العبودية ويرفعه الشهودُ، ويطهر من دنس حدوثه عين الجمع. وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحد، وإنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية ويحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا. وعبارةُ : فمن سلّم استراح، ومن نازعته حقيقة أنس بقوله : كنت سمعَه و بصرَه. وإذا عرفتَ المعاني لا مشاحة في الألفاظ. والذي يفيده هذا كله تحقُقُ أمر فوق هذا الطور،لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كاف. والتعمق في مثل هذا حجاب، و هو الذي أوقع في المقالات المعروفة.» انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات،و نقلتُه من كتاب الوزير أبي الخطيب الذي ألفه في المحبة، و سماه : التعريف بالحب الشريف؛ وقد سمعته من شيخنا أبى مهدي مرارا. إلا أني رأيت رسوم الكتاب أوعى له لطول عهدي به. والله الموفق.
ثم إن كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتُدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة. والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل، فإن كلامهم في أربعة مواضع : أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على أعمالها لتحصّل تلك الأذواق التي تصير مقاما ويُترقى منة إلى غيره، كما قلناه؛ وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب، مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبؤة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد، وتركيب الأكوان في صُدورها عن موجودها ومكوّنها كما مرّ؛ وثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات؛ ورابعها ألفاظ موهمَة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم، يعبّرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات، تُستشكل ظواهرُها، فمنكرٌ ومحسنٌ ومتأولٌ. فأما الكلام في المجاهدات والمقامات، وما يحصُلُ من الأذواق والمواجد في نتائجها، ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها، فأمر لا مدفع فيه لأحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقق بها هو عين السعادة. وأما الكلام في كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات، فأمر صحيح غير منكر. وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة، فقد فرّق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي، وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذبِ غيرُ مقدور، لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية؛ فإن صفة نفسها التصديقُ. فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها و هو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات، وإنكارها نوعُ مكابرة.
وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك، وهو معلوم مشهور. وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات؛ فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه، لما أنه وجداني عندهم، وفاقدُ الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللغات لا تعطى له دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه. ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة، فأكرمْ بها سعادة! وأما الألفاظ الموهَمَة التي يعبّرون عنها بالشطحات ويوآخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكُهُم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غيرُ مخاطِبٍ، والمجبورُ معذورٌ.
فمن عُلم منهم فضلُه و اقتداؤه حُمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله. وإن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها، كما وقع لأبي يزيد البِسطامي وأمثاله. ومن لم يُعلم فضله ولا اشتهر، فموآخَذ بما صدر عنه من ذلك، إذا لم يتبين لنا ما يحمِلُنا على تأويل كلامه. وأما من تكلم بمثلها وهو حاضر في حسه ولم يملكه الحال، فموآخذ أيضا. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور، وهو مالك لحاله. والله أعلم.
وسلفُ المتصوفة من أهل الرسالة، أعلامُ الملة الذين أشرنا إليهم من قبل، لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب، ولا هذا النوع من الإدراك؛ إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به، بل يفرون منه ويرون أنة من العوائق والمحن، وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث، وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. وعلمُ الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملكُ؛ فلم ينطقوا بشيء مما يدركون، بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يُكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده، بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء، ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حالُ المريد. والله الموفّق للصواب.